رِحْلَةٌ
إِلَى جَدِّي
كُنَّا مَا نَزَالُ فِي فَلَقِ الصُّبِحِ([1]) عِنْدَمَا وَصَلْنَا إِلَى الطَّرِيقِ الزِّرَاعِيَةِ
الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى قَرْيَةِ جَدِّي، فَأَبِي يُحِبُّ السَّفَرَ مُبَكَّرًا
حَتَّى إِنَّهُ لَيُصَلِّي بِنَا الْفَجْرَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقْ!
مَا أَجْمَلَ الرِّيفَ وَأَطْيَبَ هَوَاءَهُ النَّقِي!!
الشَّمْسُ أَشْرَقَتْ نَشِيطَةً، وَأَخَذَتْ تُطَارِدُ بَقَايَا الضَّبَابِ
الْمُتَكَاسِلَهْ، وَأَنَا وَإِخْوَتِي نَتَقَاسَمُ نَوَافِذَ حَافِلَتِنَا([2]) نُشَاهِدُ الْحُقُولَ الرَّائِعَهْ، وَيَصِيحُ
بَعْضُنَا لِبَعْضٍ بِمَا يَرَاهْ.
كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ رَأَى بُرْجَ حَمَامٍ يَلُوحُ
مِنْ بَعِيدْ، وَأَنَا أَيْضًا أَوَّلُ مَنْ أَرَيْتُ إِخْوَتِي النُّطَّارَ([3]) وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَهْ.
عَبَرْنَا بِالْحَافِلَةِ جِسْرًا عَلَى فَرْعِ
النِّيلْ! صَاحَتْ أُخْتِي: الْقَارِبَ! الْقَارِبْ! نَظَرْنَا فَإِذَا عَرَكِيٌّ([4]) فِي قَارِبِهِ يُفْرِغُ السَّمَكَ مِنَ الشَّبَكَةِ
فِي إِجَّانَهْ([5]).
عَبَرْنَا الْجِسْرَ ثُمَّ مَا لَبِثْنَا إِلَّا
قَلِيلًا حَتَّى وَصَلْنَا إِلَى مَشَارِفِ قَرْيَةِ جَدِّي، وَكَانَتْ هَذِهِ
سَاعَةً يُسِيمُ فِيهَا أَهْلُ الْقَرْيَةِ مَاشِيَتَهَمْ([6])، فَلَا جَرَمَ ازْدَحَمَتْ بِهِمُ الطَّرِيقْ، وَهِيَ
مَعَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ مُعَبَّدَهْ؛ مِمَّا اضْطَرَّ حَافِلَتَنَا لِلْإِبْطَاءِ
وَالتَّرَوِّي.
عِنْدَمَا وَصَلْنَا إِلَى الْقَرْيَةِ لَمْ نَجِدْ
لِحَافِلَتِنَا مِرْآبًا([7]) إِلَّا بَيْدَرَ([8]) الْقَرْيَهْ، وَكَمْ كَانَتْ سَعَادَةُ أَهْلِنَا بِنَا عِنْدَمَا
وَقَفَتِ الْحَافِلَةُ لِنُزُولِنَا، لَقَدْ كَادُوا يَصْعَدُونَ إِلَيْنَا فِي
الْحَافِلَةِ لِيُعَانِقُونَا مِنْ قَبْلِ أَنْ نَنْزِلَ شَوْقًا إِلَيْنَا.
اصْطَحَبَنَا أَبْنَاءُ عُمُومَتِنَا لِنَرْتَعَ
وَنَلْعَبَ عِنْدَ الْحُقُولَ، وَنَتَمَلَّى بِشَغَفٍ مَنَاظِرَ الْأَكْوَاخِ
والْحَظَائِرِ وَالنَّخْلِ والْجُمَّيْزْ!! وَهُمْ أَيْضًا كَانُوا يَسْأَلُونَنَا
عَنِ الْمَدِينَةِ بِشَغَفْ، وَيَسْأَلُونَ مَبْهُورِينَ عَنْ قِطَارِ الْأَنْفَاقِ([9]) وَسُلَّمِهِ الْكَهْرُبَائِيّْ، وَكُنْتُ أَقُولُ فِي
نَفْسِي: لَرِيفُكُمْ وَاللهِ خَيْرٌ مِنْ مَدِينَتِنَا وَضَجِيجِهَا.
لَمْ نَلْبَثْ أَنْ دُعِينَا لِلْغَدَاءِ، وَلَمَّا
يَقُمْ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ بَعْدْ، كَمِ اسْتَمْتَعْنَا بِالثَّرِيدِ([10]) الَّذِي صَنَعَتْهُ لَنَا جَدَّتِي، اجْتَمَعْنَا
عَلَى الطَّعَامِ حَتَّى غَصَّتْ بِنَا بَاحَةُ الْبَيْتْ([11])، وَوَضَعَتْ لَنَا جَدَّتُنَا الثَّرِيدَ فِي طَبَقٍ([12]) يَمْلَأُ الْخُوَانَ وَلَيْسَ فِي صَحْفَةٍ([13]) كَمَا تَصْنَعُ أُمِّي.
مَا إِنْ صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ حَتَّى أَخَذْنَا
مَقَاعِدَنَا مِنَ الْحَافِلَهْ، وَأَهْلُونَا يُوَدِّعُونَنَا أَحَرَّ وَدَاعْ،
وَيَسْأَلُونَ أَبِي أَنْ يَبْقَى([14]) بِضْعَةَ أَيَامْ، وَيَشْجُبُونَ عَجَلَتَهْ، وَهُوَ
يَعْتَذِرُ إِلَيْهِمْ بِشَوَاغِلِهِ الْعَدِيدَهْ.
كُنْتُ قَرِيبًا مِنْ أَبِي وَهُوَ يَقُودُ بِنَا
الْحَافِلَةَ وَيُجَاذِبُنَا أَطْرَافَ الْحَدِيثْ. كَانَ الْحَدِيثُ لَطِيفًا
مَازِحًا، ثُمَّ حَانَتْ مِنْ أَبِي إِلَيْنَا الْتِفَاتَةٌ وَسَأَلَنَا بِصَوْتٍ
جَادّْ: أَيُّ الْحَيَاتِيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ حَيَاةُ الْقَرْيَةِ أَمْ
حَيَاةُ الْمَدِينَهْ؟
لَمْ أَتَرَيَّثْ أَنْ قُلْتُ([17]): حَيَاةُ الْقَرْيَةِ وَاللهْ! قَالَ: وَلِمَهْ؟
قُلْتُ: النَّاسُ فِي الْقَرْيَةِ أَحْسَنُ حَالًا مِنَّا، فِي بَسَاطَةِ
حَيَاتِهِمْ، وَتَرَابُطِهِمْ، وَهُدُوءِ بِيئَتِهِمْ.
تَنَهَّدَ أَبِي قَائِلًا:
أَجَلْ! حَيَاتُهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْفِطْرَهْ!
شَعُرْتُ أَنَّ أَبِي يَقُولُ مَا فِي قَلْبِي،
فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: حَقًّا وَاللهْ! لَكِنَّنِي سَكَتُّ لَمَّا وَجَدْتُّهُ
قَدِ استطْرَدَ قَائِلًا: ([18])
إِنَّ حَيَاةَ الْمَدِينَةِ هَذِهِ طَارِئَةٌ عَلَى
تَارِيخِ الْإِنْسَانْ، وَعِنْدَمَا اسْتَخْلَفَ اللهُ أَبَانَا آدَمَ فِي هَذِهِ
الْأَرْضِ كَانَتْ حَيَاتُهُ أَشْبَهَ بِحَيَاةِ الرِّيفْ، وَهَذَا مَا يَدْعُونِي
إِلَى التَّفْكِيرِ فِي هِجْرَانِ الْمَدِينَةِ وَسُكْنَى الْقَرْيَهْ.
عِنْدَمَا وَصَلْنَا إِلَى مَشَارِفِ مَدِينَتِنَا
كَانَ ظَلَامُ اللَّيْلِ قَدْ وَقَبْ([19])، فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ نُورٍ إِلَّا مَصَابِيحُ الْمَدِينَةِ
تُوَصْوِصُ مِنْ بَعِيدْ.
وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مَا يَزَالُ يَقْطَعُ
انْشِغَالَ أَبِي بِالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، لِيَذْكُرُ حُجَّتَهُ فِي
تَفْضِيلِ الْقَرْيَةِ عَلَى الْمَدِينَهْ.
وَكَانَتْ رَجَاءُ أُخْتُنَا الصُّغْرَى تَلْهُو
وَادِعَةً بَيْنَ الْمَقَاعِدْ، فَإِذَا انْتَبَهَتْ لِنقَاشِنَا أَقْبَلَتْ
عَلَيْنَا بُرْهَةً([20])، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى لَهْوِهَا، فَبَيْنَا هِيَ
كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَتْ عَلَيْنَا مَرَّةً وَجَعَلَتْ تَرْقُبُ نِقَاشَنَا فِي
صَمْتْ، ثُمَّ لَمْ تَلْبَثْ أَنْ قَطَعَتْ حَدِيثَنَا وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى
غَاسَقِ اللَّيْلِ قائِلَةً فِي أَسَى: أُحِبُّ الْقَرْيَةَ لِأَنَّ شَمْسَهَا
كَانَتِ مُشْرِقَهْ، أَمَّا الْمَدِينَةُ فَلَيْلُهَا مُظْلِمٌ هَا هُوَ ذَا!!
لَمْ نَتَمَالَكْ أَنْفُسَنَا أَنَا وَإِخْوَتِي أَنْ
ضَحِكْنَا([21])، عَجَبًا مِنْ حُجَّتِهَا تِلْكْ!! أَمَّا أَبِي
فَقَدْ ابْتَسَمَ إِلَيْهَا بِعَطْفٍ قَائِلَا:
لَا تَحْزَنِي يَا رَجَاءْ، غَدًا تُشْرِقُ
الشَّمْسْ!!
- أَرَاكَ تُحِبُّ السَّفَرَ مُبَكِّرَا.
- أَجَلْ!
إِنَّنِي لَأُصَلِّي الْفَجْرَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقْ.
- إِنَّكَ لَتَصِلُ إِذًا فِي فَلَقِ الصُّبِحِ؟
- أَجَلْ!
إِنَّنِي لَأَصِلُ بِحَمْدِ اللهِ فَلَقِ الصُّبِحِ.
- مَا شَاءَ اللهُ، بَارَكَ اللهُ لَكَ، إِنَّكَ
لَنَشِيطْ.
- مَا أَجْمَلَ الْعَصَافِيرَ وَأَعْذَبَ
أَصْوَاتَها.
-
سَبْحَانَ
اللهِ خَالِقِهَا! مَا أَحْكَمَ صُنْعَهُ
وَأَلْطَفَ تَقْدِيرَهْ!
- أَرَيْتُ الْأُوْلَادَ النُّطَّارَ، وَلَمْ
يَكُونُوا يَعْلَمُونَ عَنِ النَّوَاطِيرِ شَيْئَا.
- وَأَنَا الَّتِي أَرَيْتُ الْأُوْلَادَ
الْعَرَكِيَّ، وَكَانُوا لَا يَرَوْنَهْ.
- وَأَنَا رَأَيْتُ بُرْجَ الْحَمَامِ وَأَرَيْتُ
كُلَّ الْأَوْلَادِ إِيَّاهْ.
- الدِّلَاءَ الدِّلَاءَ (الجرادل)!
والْأَجَاجِينَ الْأَجَاجِينَ (الأروانات)!.
- سَيقْطَعُونَ الْمَاءَ لِإِصْلَاحِ الشَّبَكَةِ
يَوْمًا كَامِلَا! لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمُهْلَةِ إِلَّا سَاعَهْ! فَامْلَئُوا
كُلَّ دَلْوٍ وَإِجَّانَهْ.
- الْمَاءُ ضَعِيفٌ، وَلَا أُرَاهُ يَمْلَأُ فِي
سَاعَةٍ إِجَّانَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَا.
- امْلَأْ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّكَ لَنْ
تُضَيَّعَ مَالِمْ تُضَيِّعْ.
- كَمْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَرَى الْمَاشِيَةَ
كَثِيرَةً هّكّذَا!
- التَّبْكِيرُ كُلُّهُ خَيْرْ.
- وَلَكِنْ يَا أَبَتِ لِمَاذَا أَخْرَجَ
النَّاسُ كُلُّهُمْ مَاشِيَتَهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدْ؟ .
- الصَّبَاحُ سَاعَةٌ يُسِيمُ فِيهَا أَهْلُ
الْقَرْيَةِ مَاشِيَتَهَمْ.
-
أَثَمَّتَ مِرْآبٌ لِحَافِلَتِنَا يَا أَبَتْ؟
-
هَا هُوَ ذَا مِرْآبُهَا.
-
أَيْنَ هُو؟
-
أَلَا يَكْفِيكَ هَذَا الْبَيْدَرُ الْفَسِيحُ مِرْآبَا؟
- لَحَيَاتُكُمُ الْوَادِعَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ حَيَاةِ الْمَدِينَهْ!
- أَمَّا أَنَا فَلَأَنْ أَرْكَبَ قِطَارَ
الْأَنْفَاقِ وَأَصْعَدَ بِسُلَّمِهِ الْكَهْرُبَائِيّْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
قَرْيَتِنَا وَمَا فِيهَا!
- لَئِنِ رَكِبْتَهُ لَتَعْتَادَنَّهُ حَتَّى
تّذْهَبَ مِنْ قَلْبِكَ بَهْجَتُهُ، ثُمَّ لَا يَبْقَى لَكَ مِنْ الْمَدِينَةِ
إِلَّا ضَجِيجُهَا.
- الطَّعَامَ الطَّعَامَ يَابَنِي! ثَرَدْتُ
لَكُمُ الثَّرِيدَ الَّذِي تُحِبُّونْ.
- سَلِمَتْ يَدَاكِ سَلِمَتْ يَدَاكْ! مَا
أَطْيَبَ ثَرِيدَكِ يَا جَدَّتِي وَاَلَذَّ طَعْمَهْ!
- يَا أَبَا خَالِدٍ لِلهِ أَنْتْ! لَوْلَا
مَتَّعْتَنَا بِأَبْنَائِنَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَهْ؟!
- لَيْتَ ذَلِكَ فِي طَوْقِي يَا أَهْلَاهْ، لَا
أَسْتَطِيعُ الْفِكَاكَ مِنْ مَوَاعِيدِي وَاَعْمَالِي.
- فَابْقَ يَا رَجُلُ إِلى نُورِ الصَّبَاحْ،
تُسَافِرُ فِي غَسَقِ اللَّيْلِ هَكَذَا؟!
- قَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُسَافِرُ لَيْلًا،
وَيَقُولُ: إِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ [أحمد 14277].
- وَاللهْ؟!
- إِيْ وَاللهْ! ثُمَّ إِنَّ اللَّيْلَ أَهْدَأُ
لِلطَّرِيقِ، وَأَنْأَى عَنِ الزِّحَامْ.
- مَتَى قَفَلْتُمْ؟
- مَا عَسْعَسَ اللَّيْلُ عَلَيْنَا إِلَّا
وَنَحْنُ فِي الْحَافِلَهْ.
- لَا تَتَرَيَثْ إِذَا سَمِعْتَ الْأَذَانَ أَنْ
تَقُومَ إِلَى الصَّلَاهْ.
- لَنْ أَتَرَيَّثَ عَنْهَا إِنْ شَاءَ اللهْ.
- إِنَّكَ إِنْ تَرَيَّثْتَ الْيَوْمَ عَنِ
الصَّلَاةِ سَاعَةً، يُوشِكُ أَنْ تَتَرَيَثَ عَنْهَا مِنْ الْغَدِ سَاعَتَيْنِ،
فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ أَوْشَكْتَ أَنْ تُضَيِّعَهَا جُمْلَهْ.
- دَعْنِي أَسْتَطْرِدْ فِي حَدِيثِي، فَإِذَا
أَنَا فَرَغْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَتَكَلَّمْ، فَإِنِّي لَنْ أُقَاطِعَكْ.
- أَنْصَفْتَ وَاللهْ! فَاسْتَطْرِدْ مَا بَدَا
لَكْ.
- لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهْ! الْكَهْرُبَاءُ
مُنْقَطِعَة!
- نُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ
نَرْجِعَ سَرِيعًا قَبْلَ أَنْ يَقِبَ اللَّيْلُ.
- أَجَلْ أَجَلْ! إِذَا وَقَبَ اللَّيْلُ
والْمَصَابِيحُ مُطْفَأَةٌ فَلَنْ نَرَى شَيْئًا.
- وَيْسَكِ يَا رَجَاءْ، الشَّمْسُ إِذَا
طَلَعَتْ طَلَعَتْ عَلَى الدُّنْيَا كُلِّهَا، وَكَذَلِكِ اللَّيْلُ إِذَا وَقَبْ!
- اسْكُتْ يَا خَالِدْ! اسْكُتْ!
تَمَّ بِحَمْدِ اللهِ